فصل: باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء:

الاستقصاء: طلب السقيا، كالاستغفار: طلب المغفرة والاستعانة: طلب المعونة، والاستعاذة: طلب العوذ، والاستهداء: طلب الهدايا، لأن مادة استفعل في الغالب تدل على الطلب، وقد لا تدل على الطلب، بل تدل على المبالغة في الفعل، مثل: استكبر، أي: بلغ في الكبر غايته، وليس المعنى طلب الكبر، والاستسقاء بالأنواء، أي: أن تطلب منها أن تسقيك.
والاستسقاء بالأنوار، أي: أن تطلب منها أن تسقيك.
والاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: شرك أكبر، وله صورتان:
الأولى: أن يدعو الأنوار بالسقيا، كأن يقول: يا نوء كذا! اسقنا أو أغثنا، وما أشبه ذلك، فهذا شرك أكبر، لأنه دعا غير الله، ودعاء غير الله من الشرك الأكبر، قال تعالى: {ومن يدع مع الله إلها أخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون} [المؤمنون: 17]، وقال تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدًا} [الجن: 18]، وقال تعالى: {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذًا من الظالمين} [يونس: 106].
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على النهي عن دعاء غير الله، وأنه من الشرك الأكبر.
الثانية: أن ينسب حصول الأمطار إلى هذه الأنوار على أنها هي الفاعلة بنفسها دون الله ولو لم يدعها، فهذا شرك أكبر في الربوبية، والأول في العبادة، لأن الدعاء من العبادة، وهو متضمن للشرك في الربوبية، لأنه لم يدعها إلا وهو يعتقد أنها تفعل وتقضي الحاجة.
القسم الثاني:
شرك أصغر، وهو أن يجعل هذه الأنواء سسببًا مع اعتقاده أن الله هو الخالق الفاعل، لأن كل من جعل سببًا لم يجعله الله سببًا لا بوجيه ولا بقدرة، فهو مشرك شركًا أصغر.
وقال الله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 82].
قوله تعالى: {وتجعلون}. أي: تصيرون، وهى تنصب مفعولين: الأول: {رزق}، والثاني: {أن}، وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول ثان، والتقدير: وتجعلون رزقكم كونكم تكذبون أو تكذيبكم.
والمعنى: تكذبون أنه من عند الله، حيث تضيفون حصوله إلى غيره.
قوله: {رزقكم}. الرزق هو العطاء، والمراد به هنا: ما هو أعم من المطر، فيشمل معنيين:
الأول: أن المراد به رزق العلم، لأن الله قال: {فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 75-83]، أي: تخافونهم فتداهنونهم، وتجعلون شكر ما رزقكم الله به من العلم والوحي أنكم تكذبون به، وهذا هو ظاهر سياق الآية.
الثاني: أن المراد بالرزق المطر، وقد روي في ذلك حديث عن النبي لكنه ضعيف، إلا أنه صح عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: أن المراد بالرزق المطر، وأن التكذيب به نسبته إلى الأنواء، وعليه يكون ما ساق المؤلف الآية من أجله مناسبًا للباب تمامًا.
والقاعدة في التفسير أن الآية إذا كانت تحتمل المعنيين جميعًا بدون منافاة تحمل عليهما جميعًا، وإن حصل بينهما منافاة طلب المرجح.
ومعنى الآية: أن الله يوبخ هؤلاء الذين يجعلون شكر الرزق التكذيب والاستكبار والبعد، لأن شكر الرزق يكون بالتصديق والقبول والعمل بطاعة المنعم، والفطرة كذلك لا تقبل أن تكفر بمن ينعم عليها، فالفطرة والعقل والشرع كل منها يوجب أن تشكر من ينعم عليك، سواء قلنا: المراد بالرزق المطر الذي به حياة الأرض، أو قلنا: إن به القرآن الذي به حياة القلوب، فإن هذا من أعظم الرزق، فكيف يليق بالإنسان أن يقابل هذه النعمة بالتكذيب؟!
واعلم أن التكذيب نوعان:
أحدهما: التكذيب بلسان المقال، بأن يقول هذا كذب، أو المطر من النوء ونحو ذلك.
والثاني: التكذيب بلسان الحال، بأن يعظم الأنواء والنجوم معتقدًا أنها السبب، ولهذا وعظ عمر بن عبد العزيز الناس يومًا، فقال: (أيها الناس! إن كنتم مصدقين، فأنتم حمقى، وإن كنتم مكذبين، فأنتم هلكى). وهذا صحيح، فالذي يصدق ولا يعمل أحمق، والمكذب هالك، فكل إنسان عاص نقول له الآن: أنت بين أمرين: إما أنك مصدق بما رتب على هذه المعصية، أو مكذب، فإن كنت مصدقًا، فأنت أحمق، كيف لا تخاف فتستقيم؟! وإن كنت غير مصدق، فالبلاء أكبر، فأنت هالك كافر.
وعن أبى مالك الشعري رضى الله عنه، أن رسول الله قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالإكساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة».
قوله في حديث أبى مالك: «أربع في أمتي». الفائدة من قوله: (أربع) ليس الحصر، لأن هناك أشياس تشاركها في المعنى، وإنما يقول النبي ذلك باب حصر العلوم وجمعها بالتقسيم والعدد، لأنه يقرب الفهم، ويثبت الحفظ.
قوله: (من أمر الجاهلية). أمر هنا بعنى شأن، إي: من شأن الجاهلية وهو واحد الأمور، وليس واحد الأوامر، وليس الأوامر، لأن واحد الأوامر طلب الفعل على وجه الاستعلاء.
وقوله: (من أمر الجاهلية). إضافتها إلى الجاهلية الغرض منها التقبيح والتنفير، لأن كل إنسان يقال: فعلك فعل الجاهلية لا شك أنه يغضب، إذ إنه لا أحد يرضى أن يوصف بالجهل، ولا بأن فعله من أفعال الجاهلية، فالغرض من الإضافة هنا أمران:
1- التنفير.
2- بيان أن هذه الأمور كلها جهل وحمق بالإنسان، إذ ليست أهلًا بأن يراعيها الإنسان أو يعتني بها، فالذي يعتني بها جاهل.
والمراد بالجاهلية هنا: ما قبل البعثة، لأنهم كانوا على جهل وضلال عظيم حتى إن العرب كانوا أجهل خلق الله، ولهذا يسمون بالأميين، والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، نسبة إلى الأم، كأن أمه ولدته الآن.
لكن لما بعث فيهم هذا النبي الكريم، قال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [آل عمران: 164]، فهذه منة عظيمة أن بعث فيهم النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأمور السامية:
1- يتلو عليه آيات الله.
2- ويزكيهم، فيطهر أخلاقهم وعبادتهم وينميها.
3- ويعلمهم الكتاب.
4- والحكمة.
هذه فوائد أربع عظيمة لو وزنت الدنيا بواحدة منها لوزنتها عند من يعرف قدرها، ثم بين الحال من قبل فقال: {وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} و: (إن) هذه ليست نافية بل مؤكدة؛ فهي مخففة من الثقيلة، يعني: وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
إذن المراد بالجاهلية ما قبل البعثة، لأن الناس كانوا فيها على جهل عظيم. فجهلمم شامل للجهل فى حقوق الله وحقوق عباده، فمن جهلهم أنهم ينصبون النصب ويعبدونها من دون الله، ويقتل أحدهم أبنته لكي لا يعير بها، ويقتل أولاده من ذكور وإناث خشية الفقر.
قوله: (لا يتركونهن). المراد: لا يتركون كل واحد منها باعتبار المجموع بالمجموع، بأن يكون كل واحد منها عند جماعة، والثاني عند أخرين، والثالث عند أخرين، والرابع عند أخرين، وقد تجتمع هذه الأقسام فى قبيلة، وقد تخلو بعض القبائل منها جميعًا، إنما الأمة كمجموع لابد أن يوجد فيها شيء من ذلك، لأن هذا خبر من الصادق المصدوق، والمراد بهذا الخبر التنفير، لأنه قد يخبر بأشياء تقع وليس غرضه أن يؤخذ بها، كما قال: «التركبن سنن من كان قبلكم» اليهود والنصارى، أي: فاحذروا، وأخبر: «أن الظعينة تخرج من صنعاء إلى حضرموت لا تخشى إلا الله»، أي: بلا محرم، وهذا خبر عن أمر واقع وليس إقرارًا له شرعًا.
قوله: «أمتي» أي: أمة الإجابة.
قوله: «الفخر بالأحساب». الفخر: التعالى والتعاظم، والباء للسببية، أي: يفخر بسبب الحسب الذي هو عليه.
والحسب: ما يحتسبه الإنسان من شرف وسؤدد، كأن يكون من بني هاشم فيفتخر بذلك، أو من آباء وأجداد مشهورين بالشجاعة، فيفتخر بذلك، وهذا من أمر الجاهلية، لأن الفخر في الحقيقة يكون بتقوى الله الذي يمنع الإنسان من التعالى والتعاظم، والمتقي حقيقة هو الذي كلما أزدادت نعم الله عليه ازداد تواضعًا للحق وللخلق.
وإذا كان الفخر بالحسب من فعل الجاهلية، فلا يجوز لنا أن نفعله، ولهذا قال تعالى لنساء نبيه: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} [الأحزاب: 33]، وأعلم أن كل ما ينسب إلى الجاهلية، فهو مذموم ومنهي عنه.
قوله: «الطعن فى الأنساب». الطعن العيب، لأنه وخز معنوي كوخز الطاعون فى الجسد، ولهذا سمي العيب طعنًا.
والأنساب: جمع نسب، وهو أصل الأنسان وقرابته، فيطعن في نسبه كأن يقول: أنت ابن الدباغ، أو أنت ابن مُقطّعة البظور- وهى شيء في فرج المرأة يقطع عند ختان النساء-.
قوله: «والاستسقاء بالنجوم». أي: نسبة المطر إلى النجوم مع أعتقاد أن الفاعل هو الله- عز وجل، أما إن أعتقد أن النجوم هي التي تخلق المطر والسحاب أو دعاها من دون الله لتنزل المطر، فهذا شرك أكبر مخرج من المللة.
قوله: «والنياحة على الميت». هذا هو الرابع، والنياحة: هي رفع الصوت بالبكاء على الميت قصدًا، وينبغي أن يضاف إليه على سبيل النوح، كنوح الحمام.
والندب: تعداد محاسن الميت.
والنياحة من أمر الجاهلية، ولابد أن تكون في هذة الأمة، وإنما كانت من أمر الجاهلية:
إما من الجهل الذي هو ضد العلم.
أو من الجهالة التي هى السفه، وهي ضد الحكمة.
وإنما كانت لأمور، هي:
1- أنها لا تزيد النائح إلا شدة وحزنًا وعذابًا.
2- أنها تسخط من قضاء الله وقدره وأعتراض عليه.
3- أنها تهيج أحزان غيره.
وقد ذكر عن ابن عقيل رحمه الله- وهو من علمائنا الحنابلة- أنه خرج في جنازة ابنه عقيل وكان أكبر أولاده وطالب علم، فلما كانوا في المقبرة صرخ رجل وقال: {يا أيها العزيز إن له شيخاَ كبيرًا فخذ أحدنا مكانه آنا نراك من المحسنين} [يوسف: 78]، فقال له ابن عقيل رحمه الله: إن القرآن إنما نزل لتسكين الأحزان، وليس لتهييج الأحزان.
4- أنه مع هذه المفاسد لا يرد القضاء، ولا يرفع ما نزل.
والنياحة تشمل ما إذا كانت من رجل أو أمرأة. لكن الغالب وقوعها من النساء، ولهذا قال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها»؟ أي: إن تابت قبل الموت، تاب الله عليهما، وظاهر الحديث أن هذا الذنب لا تكفره إلا التوبة، وأن الحسنات لا تمحوه، لأنه من كبائر الذنوب والكبائر لا تمحى بالحسنات، فلا يمحوها إلا التوبة.
وقال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب». رواه مسلم.
قوله: «تقام يوم القيامة». أي تقام من قبرها.
قوله: «وعليها سربال من قطران». السربال: الثوب السابغ كالدرع، والقطران معروف، ويسمى (الزفت) وقيل: إنه النحاس المذاب.
قوله: «ودرع من جرب». الجرب: مرض معروف يكون فى الجلد، يؤرق الأنسان، وربما يقتل الحيوان، والمعنى أن كل جلدها يكون جربًا بمنزله الدرع، وإذا اجتمع قطران وجرب زاد البلاء، لأن الجرب أي شيء يمسه يتأثر به، فكيف ومعه قطران؟!
والحكمة أنها لما لم تغط المصيبة بالصبر غطيت بهذا الغطاء سربال من قطران ودرع من جرب، فكانت العقوبة من جنس العمل.
* ويستفاد من الحديث:
1- ثبوت رسالته، لأنه أخبر عن أمر من أمور الغيب فوقع كما أخبر.
2- التنفير من هذه الأشياء الأربعة: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت.
3- أن النياحة من كبائر الذنوب لوجود الوعيد عليها في الآخرة، وكل ذنب عليه الوعيد فى الآخرة، فهو من الكبائر.
4- أن كبائر الذنوب لا تكفر بالعمل الصالح، لقوله: «إذا لم تتب قبل موتها».
5- أن من شروط التوبة أن تكون قبل الموت لقوله: «إذا لم تتب قبل موتها»، ولقوله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} [النساء: 18].
6- أن الشرك الأصغر لا يخرج من المللة، فمن أهل العلم من قال: إنه داخل تحت المشيئة: إن شاء الله عذبه، وإن شاء غفر له.
ومن أهل العلم من قال: إنه ليس بداخل تحت المشيئة، وإنه لابد أن يعاقب، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيميه لإطلاق قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء: 116]، فقال: والشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، وبهذا نعرف عظم سيئة الشرك، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقًا».
لأن الحلف بغير الله من الشرك، والحلف بالله كاذبًا من كبائر الذنوب وسيئة الشرك أعظم من سيئة الذنب.
7- ثبوت الجزاء والبعث.
8- أن الجزاء من جنس العمل.
ولهما عن زيد بن خالد رضى الله عنه، قال: «صلى لنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصراف، أقبل على الناس، فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم»؟.
قوله في حديث زيد بن خالد: (صلى لنا). أي إمامًا، لأن الإمام يصلي لنفسه ولغيره، ولهذا يتبعه المأموم، وقيل: إن اللام بمعنى الباء، وهذا قريب وقيل: إن اللام للتعليل، آي: صلى لآجلنا.
قوله: (صلاة الصبح بالحديبية). أى صلاة الفجر، والحديبية فيها لغتان: التخفيف، وهو أكثر، والتشديد، وهى أسم بئر سمي بها المكان، وقيل أن أصلها شجرة حدبا تسمى حديبية، والأكثر على أنها بئر، وهذا المكان قريب من مكة بعضه في الحل وبعضه فى الحرم، نزل به الرسول في السنة السادسة من الهجرة لما قدم معتمرًا، فصده المشركون عن البيت، وما كانوا أولياءه، إن أولياؤه إلا المتقون، ويسمى الآن الشميسي.
قوله: (على إثر سماء كانت من الليل). الإثر معناه العقب، والأثر معناه العقب، والأثر: ما ينتج عن السير.
قوله: (سماء). المراد به المطر.
قوله: (كانت من الليل). (من) لابتداء الغاية هذا هو الظاهر- والله أعلم-، ويحتمل أن تكون بمعنى فى للظرفية.
قوله: (فلما انصرف) أي: من صلاته، وليس من مكانه بدليل قوله: (أقبل على الناس).
قوله: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟». الاستفهام يراد به التنبيه والتشويق لما سيلقى عليهم، وإلا، فالرسول يعلم أنهم لا يعلمون ماذا قال الله، لأن الوحي لا ينزل عليهم.
ومعنى قوله: (هل تدرون). أي: هل تعلمون.
والمراد بالربوبية هنا الخاصة، لأن ربوبية الله للمؤمن خاصة كما أن عبودية المؤمن له خاصة، ولكن الخاصة لا تنافي العامة، لأن العامة تشمل هذا وهذا، والخاصة تختص بالمؤمن.
قوله: (قالوا: الله ورسوله). فيه إشكال نحوي، لأن: (اعلم) خبر عن اثنين، وهي مفرد، فيقال: أن أسم التفضيل: إن اسم التفضيل إذا نوي به معنى (من)، وكان مجردًا من أل والإضافة لزم فيه الإفراد والتذكير.
وفيه أيضًا إشكال معنوى، وهو أنه جمع بين الله ورسوله بالواو، مع أن الرسول لما قال له الرجل: (ما شاء الله وشئت). قال: «أجعلتنى لله ندًّا!».
فيقال: أن هذا أمر شرعي، وقد نزل على الرسول.
وأما إنكاره على من قال: ما شاء وشئت، فلأنه أمر كوني، والرسول ليس له شأن فى الأمور الكونية.
والمراد بقولهم: (الله ورسوله أعلم) تفويض العلم إلى الله ورسوله، وأنهم لا يعلمون.
قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «أصبح من عبادى مؤمن بي وكافر، فأما من قال، مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب».
قوله: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر». (مؤمن) صفة لموصوف محذوف، أي: عبد مؤمن، وعبد كافر.
و: (أصبح): من أخوات كان، وأسمها: (مؤمن)، وخبرها: (من عبادي). ويجوز أن يكون (أصبح) فعلًا ماضيًا ناقصًا، وأسمها ضمير الشأن، أي: أصبح الشأن، فـ: (من عبادي) خبر مقدم، و: (مؤمن) مؤخر، أي: أصبح شأن الناس منهم مؤمن ومنهم كافر.
قوله: «فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته». أي: قال بلسانه وقلبه، والباء للسبيية، وأفضل: العطاء والزيادة.
والرحمة: صفة من صفات الله، يكون بها الإنعام والإحسان إلى الخلق.
وقوله: «فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب». لأنه نسب المطر إلى الله ولم ينسبه إلى الكوكب، ولم ير له تأثيرًا في نزوله، بل نزل بفضل الله.
قوله: «وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا». الباء للسببية، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب، وصار كافرًا بالله، لأنه أنكر نعمة الله ونسبها إلى سبب لم يجعله الله سببًا، فتعلقت نفسه بهذا السبب، ونسي نعمة الله، وهذا الكفر لا يخرج من المللة، لأن المراد نسبة المطر إلى النوء على أنه سبب وليس إلى النوء على أنه فاعل.
لأنه قال: (مطرنا بنوء كذا)، ولم يقل: أنزل علينا المطر نوء كذا، لأنه لو قال ذلك، لكان نسبة المطر إلى النوء نسبة إيجاد، وبه نعرف خطأ من قال: إن المراد بقوله: (مطرنا بنوء كذا) نسبة المطر إلى النوء نسبة أيجاد، لأنه لو كان هذا هو المراد لقال: أنزل علينا المطر نوء كذا ولم يقل مطرنا به.
فعلم أن المراد أن من أقر بأن الذي خلق المطر وأنزله هو الله، لكن النوء هو السبب، فهو كافر، وعليه يكون من باب الكفر الأصغر الذى لا يخرج من المللة.
والمراد بالكوكب النجم، وكانوا ينسبون المطر إليه، ويقولون: إذا سقط النجم الفلاني جاء المطر، وإذا طلع النجم الفلاني جاء المطر، وليسوا ينسبونه إلى هذا نسبة وقت، وإنما نسبة سبب، فنسبة المطر إلى النوء تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- نسبة إيجاد، وهذه شرك أكبر.
2- نسبة سبب، وهذه شرك أصغر.
3- نسبة وقت، وهذه جائزة بأن يريد بقوله: مطرنا بنوء كذا، أي: جاءنا المطر فى هذا النوء أي فى وقته.
ولهذا قال العلماء: يحرم أن يقول: مطرنا بنوء كذا، ويجوز مطرنا في نوء كذا، وفرقوا بيهما أن الباء للسببية، و: (في) للظرفية، ومن ثم قال أهل العلم: إنه إذا قال: مطرنا بنوء كذا وجعل الباء للظرفية فهذا جائز، وهذا وإن كان له وجه من حيث المعنى، لكن لا وجه له من حيث اللفظ، لأن لفظ الحديث: «من قال: مطرنا بنوء كذا»، والباء للسببية أظهر منها للظرفية، وهي وإن جاءت للظرفية كما فى قوله تعالى: {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل} [الصافات: 137، 138]، لكن كونها للسببية أظهر، والعكس بالعكس، (في) للظرفية أظهر منها للسببية وإن جاءت للسببية، كما في قوله: «دخلت امرأة النار في هرة».
والحاصل أن الأقرب المنع ولو قصد الظرفية، لكن إذا كان المتكلم لا يعرف من الباء إلا الظرفية مطلقًا، ولا يظن أنها تأتى سببية، فهذا جائز، ومع ذلك فالأولى أن يقال لهم: قولوا: فى نوء كذا.
ولهما من حديث ابن عباس معناه وفيه قال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا. فأنزل الله هذه الآيات: {فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقران كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين أفبهذا الحديث أنت مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 75-82].
قوله: (ولهما). الظاهر أنه سبق قلم، وإلا، فالحديث في (مسلم) وليس في (الصحيحين).
ومعنى الحديث: أنه لما نزل المطر نسبه بعضهم إلى رحمة الله وبعضهم قال: لقد صدق نوء كذا وكذا، فكأنه جعل النوء هو الذي أنزل المطر أو نزل بسببه.
ومنه ما يذكر في بعض كتب التوقيت: (وقل أن يخلف نوؤه)، أو: (هذا نوؤه صادق)، وهذا لا يجوز، وهو الذي أنكره الله- عز وجل- على عباده، وهذا شرك أصغر، ولو قال بإذن الله، فإنه لا يجوز لأن كل الأسباب من الله، والنوء لم يجعله الله سببًا.
قوله: {فلا أقسم بمواقع النجوم}. اختلف في (لا)، فقيل: نافية، والمنفى محذوف، وتقدير لا صحة لما تزعمون من أن القرآن كذب أو سحر وشعر وكهانة، أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم.
فأقسم لا علاقة لها بـ: (لا) إطلاقًا، وهذا له بعض الوجه، وقيل: أن المنفي القسم، فهي داخلة على أقسم، أي: لا أقسم ولن أقسم على أن القرآن كريم، لأن الأمر أبين من أن يحتاج إلى قسم، وهذا ضعيف جدًّا.
وقيل: إن (لا) للتنبيه، والجملة بعدها مثبتة، لأن (لا) بمعنى انتبه، أقسم بمواقع النجوم... وهذا هو الصحيح.
فإن قيل: ما الفائدة من أقسامه سبحانه مع أنه صادق بلا قسم، لأن القسم إن كان لقوم يؤمنون به ويصدقون كلامه، فلا حاجة إليه، وإن كان لقوم لا يؤمنون به، فلا فائدة منه، قال تعالى: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل أيه ما تبعوا قبلتك} [البقرة: 145].
أجيب: أن فائدة القسم من وجوه:
الأول: أن هذا أسلوب عربي لتأكيد الأشياء بالقسم، وإن كانت معلومة عند الجميع، أو كانت منكرة عند المخاطب، والقرآن نزل بلسان عربي مبين.
الثاني: أن المؤمن يزداد يقينًا من ذلك، ولا مانع من زيادة المؤكدات التى تزيد فى يقين العبد، قال تعالى عن إبراهيم: {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260].
الثالث: أن الله يقسم بأمور عظيمة دالة على كمال قدرته وعظمته وعلمه فكأن يقيم فى هذا المقسم به البراهين على صحة ما أقسم عليه بواسطة عظم ما أقسم به.
الرابع: التنويه بحال المقسم به، لأنه لا يقسم إلا بشيء عظيم، وهذان الوجهان لا يعودان إلى تصديق الخبر، بل إلى ذكر الآيات التي أقسم بها تنويهًا له بها وتنبيهًا على عظمها.
الخامس: الاهتمام بالمقسم عليه، وأنه جدير بالعناية والإثبات.
وقوله: {فلا أقسم بمواقع النجوم}. الله- سبحانه- يتحدث عن نفسه بضمير المفرد، لأنه يدل على الانفراد والتوحيد، فهو سبحانه واحد لا شريك له، ويتحدث عن نفسه بضمير الجمع، لأنه يدل على العظمة، كقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9]، وقوله: {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وأثارهم} الآية [يس: 12] ولا يتحدث عن نفسه بالمثنى، لأن المثنى محصور باثنين.
والباء حرف قسم، والمواقع جمع موقع.
واختلف في النجوم، فقيل أنها النجوم المعروفة، فيكون المراد بمواقعها مطالعها ومغاربها.
وأقسم الله بها، لما فيها من الدلالة على كمال القدرة في هذا الانتظام البديع وما فيها من مناسبة المقسم به والمقسم عليه، وهو القرآن المحفوظ بواسطة الشهب، فإن السماء عند نزول الوحي ملئت حرسًا شديدًا وشهبًا.
وقيل: إن المراد أجال نزول القران، ومنه قولهم: (نزل القرآن منجمًا)، وقول الفقهاء: يجب أن يكون دين المكاتب مؤجلًا بنجمين فأكثر، فيكون الله أقسم بواقع نزول القرآن، وقد سبقت لنا قاعدة مفيدة، وهي أنه إذا كان المعنيان لا يتنافيان تحمل الآية على كل منهما، وإلا، طلب المرجح.
قوله: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم}. (قسم) خبر إن، وهذا القسم أكد الله عظمته بإن واللام تنويهًا بالمُقْسَم عليه وتعظيمه.
وقوله: {لو تعلمون}. مؤكِّد ثالث أنه قال: ينبغى أن تعلموا هذا الأمر ولا تجهلوه، فهو أعظم من أن يكون مجهولًا، فإنه يحتاج إلى علم وانتباه، فلو تعلمون حق العلم لعرفتم عظمته، فانتبهوا.
قوله: {لقرآن}. مصدر مثل الغفران والشكران بمعنى اسم الفاعل، وبمعنى اسم المفعول، فعلى الأول يكون المراد أنه جامع للمعاني التي تضمنتها وبمعنى اسم السابقة من المصالح والمنافع، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه} [المائدة: 48]، وعلى الثاني يكون بمعنى المجموع، لأنه مجموع مكتوب.
قوله: {كريم}. يطلق على كثير العطاء، وهذا كمال فى العطاء متعد للغير، ويطلق على الشئ البهيَّ الحَسَن، ومنه قول النبي: «إياك وكرائم أموالهم»، أي: البهي منها والحسن، وهذا كمال في الذات وهذان المعنيان موجودان في القرآن، فالقرآن لا أحسن منه بذاته، قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلًا} [الأنعام: 115].
والقرآن يعطي أهله من الخيرات الدينية والدنيوية والجسمية والقلبية، قال تعالى: {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادًا كبيرًا} [الفرقان: 52]، فهو سلاح لمن تمسك به ولكن يحتاج إلى أن تمسك به بالقول والعمل والعقيدة فلابد أن يصدق العقيدة العمل، قال: «ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
ووصف الله القرآن في آية أخرى بأنه مجيد، والمجد صفة العظمة والعزة والقوة، والقرآن جامع بين الأمرين: فيه قوة وعظمة، وكذا خيرات كثيرة وإحسان لمن تمسك به.
قوله: {في كتاب مكنون}. كتاب فعال بمعنى مفعول، مثل: فراش بمعنى مفروش، وغِراس بمعنى مغروس، وكتاب بمعنى مكتوب.
والمكنون: المحفوظ، قال تعالى: {كأنهن بيض مكنون} [الصافات: 49]. واختلف المفسرون في هذا الكتاب على قولين:
الأول: أنه اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء.
الثانى: وإليه ذهب ابن القيم أنه الصحف التي في أيدي الملائكة، قال تعالى: {كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة} [عبس: 11-15]، فقوله: {بأيدي سفرة} يرجع إن المراد الكتب التي في أيدى الملائكة، لأن قوله: {لا يمسه إلا المطهرون}، أي: الملائكة، يوازن قوله: {بأيدي سفرة}، وعلى هذا يكون المراد بالكتاب الجنس لا الواحد.
قوله: {لا يمسه إلا المطهرون}. الضمير يعود إلى الكتاب المكنون، لأنه أقرب شيء، وهو بالرفع: {لا يمسه} باتفاق القراء، وإنما نبهنا على ذلك، لدفع قول من يقول: إنه خبر بمعنى النهي، والضمير يعود على القرآن، أي: نهى أن يمس القرآن إلا طاهر، والآية ليس فيها ما يدل على ذلك، بل هي ظاهرة في أن المراد به اللوح المحفوظ، لأنه أقرب مذكور، ولأنه خبر، والأصل في الخبر أن يبقى على ظاهره خبرًا لا أمرًا ولا نهيًا حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك، ولم يرد ما يدل على خلاف ذلك، بل الدليل على أنه لا يراد به إلا ذلك، وأنه يعود إلى الكتاب المكنون، ولهذا قال الله: {إلا المطهرون} باسم المفعول، ولم يقل: إلا المطَّهِّرون، ولو كان المراد المطَّهِّرون لقال ذلك، أو قال: إلا المتطهرون، كما قال تعالى: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}.
والمطهرون: هم الذين طهرهم الله تعالى، وهم الملائكة، طُهِّروا من الذنوب وأدناسها، قال تعالى: {لا يعصون الله ما أمرهم} [التحريم: 6].
وقال تعالى: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 20]، وقال تعالى: {بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 26-27]، وفرق بين المطِّهر الذي يريد أن يفعل الكمال بنفسه، وبين المطَّهر الذي كمله غيره وهم الملائكة، وهذا مما يؤيد ما ذهب إليه ابن القيم أن المراد بالكتاب الكتب التي في أيدي الملائكة، وفي الآية إشارة على أن من طهر قلبه من المعاصي كان أفهم للقرآن،وأن من تنجس قلبه بالمعاصي كان أبعد فهمًا عن القرآن، لأنه إذا كانت الصحف التي في أيدى الملائكة لم يمكن الله من مسها إلا هؤلاء المطهرين، فكذلك معاني القرآن.
فاستنبط شيخ الإسلام من هذه الآية: أن المعاصي سبب لعدم فهم القرآن، كما قال تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14]، وهم الذين قال الله فيهم: {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} [القلم: 15]، فهم لا يصلون إلى معانيها وأسرارها، لأنه ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
وقد ذكر بعض أهل العلم: أنه ينبغي لمن أستُفتَي أن يُقدِّم بين يدي الفتوى الاستغفار لمحو أثر الذنب من قلبه حتى يتبين له الحق، واستنبطه من قوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا واستغفر الله إن الله كان غفورًا رحيمًا} [النساء: 105].
قوله: {تنزيل من رب العالمين}. خبر ثان لقوله: {وإنه}، وهو كقوله: {وأنه لتنزيل رب العالمين} [الشعراء، 192]، وقوله: {تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته} [فصلت: 2-3]، فهو خبر مكرر مع قوله: {لقرآن}.
و: {تنزيل}، أي: منزل، فهي مصدر بمعنى اسم المفعول منزل من رب العالمين، أنزله الله على قلب النبي، لأنه محل الوعي والحفظ بواسطة جبريل، قال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين}.
وقوله: {من رب العالمين}. أي: خالقهم، ويستفاد من الآية ما يلى:
1- أن القرآن نازل لجميع الخلق، ففيه دليل على عموم رسالة النبي.
2- أنه نازل من ربهم، وإذا كان كذلك، فهو الحكم بينهم الحاكم عليهم.
3- أن نزول القرآن من كمال ربوبية الله، فإذا أضيف إلى هذه الآية قوله تعالى: {تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته}، علم أن القرآن رحمة للعباد أيضًا، وربوبية الله مبنية على الرحمة، قال تعالى: {الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 2-3] وكل ما أمر الله به عباده أو نهاهم عنه، فهو رحمة بهم.
4- أن القرآن كلام الله، لأنه إذا كان الله أنزله، فهو كلامه لا كلام غيره كما قاله السلف رحمهم الله، وهو غير مخلوق، لأن جميع صفات الله حتى الصفات الفعلية ليست مخلوقة.
والقرآن كلام الله منزل غير مخلوق.
فإن قيل: هل كل منزل غير مخلوق؟
قلنا: لا، لكن كل منزل يكون وصفًا إلى الله، فهو غير مخلوق، كالكلام، وإلا فإن الله أنزل من السماء ماء وهو مخلوق، وقال تعالى: {وأنزلنا الحديد} [الحديد: 25] وهو مخلوق، وقال تعالى: {وأنزل لكم من الأنعام ثماينة أزواج} [الزمر: 6] والأنعام مخلوقة، فإذا كان المُنْزَل من عند الله صفه لا تقوم بذاتها، وإنما تقوم بغيرها، لزم أن يكون غير مخلوق، لأنه من صفات الله.
قوله: {أفبهذا الحديث أنتم مدهنون}. الاستفهام للإنكار والتوبيخ.
والحديث: القرآن، والمدهن:الخائف من غيره الذي يحابيه بقوله وفعله.
والمعنى: أتدهنون بهذا الحديث وتخافون وتستخفون؟! لا ينبغي لكم هذا، بل ينبغي لمن معه القرآن أن يصدع به وأن يبينه ويجاهد به، قال تعالى: {وجاهدهم به جهادا كبيرًا} [الفرقان: 52].
قوله: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}. أكثر المفسرين على أنه على حذف مضاف، أي: أتجعلون شكر رزقكم، أي: ما أعطاكم الله من شيء من المطر ومن إنزال القرآن، أي: تجعلون شكر هذه النعمة العظيمة أن تكذبوا بها، والنبي وإن كان ذكرها في المطر، فإنها تشمل المطر وغيره.
وقيل: إنه ليس في الآية حذف، والمعنى: تجعلون شكركم تكذيبًا، وقال: إن الشكر رزق، وهذا هو الصحيح، بل هو أكبر الأرزاق، قال الشاعر:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة ** على له في مثلها يجب الشكر

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ** وإن طالت الأيام واتصل العمر

فالنعمة تحتاج إلى شكر، ثم إذا شكرتها، فهي نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان، وإن شكرت في الثانية، فهي نعمة تحتاج إلى شكر ثالث، وهكذا أبدًا، قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [النحل: 18].
قوله: {أنكم تكذبون}. (أن) وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول تجعلون الثاني، أي: تُصيِّرون شكركم تكذيبًا، إن كانت وحيًا كذَّب خبره ولم يمتثل أمره ولم يجتنب نهيه، وإن كانت عطاء تنمو به الأجسام نسبة إلى غير الله، قال: هذا من النوء أو هذا من عملي، كما قال قارون: {إنما أوتيته على علم عندي} [القصص: 78].
* فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الواقعة: ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية. الثالثة: ذكر الكفر في بعضها. الرابعة: أمن من الكف ما لا يخرج من المللة. الخامسة قوله: «أصبح من عبدي مؤمن بي وكافر»، بسبب نزول النعمة.
فيه مسائل:
* الأول: تفسير آية الواقعة. وهي قوله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}، وقد مر تفسيرها.
* الثانية: ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية. وهي الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والاستسقاء بالأنواء، والنياحة على الميت.
* الثالثة: ذكر الكفر في بعضها. وهي الاستسقاء بالأنواء، وكذلك الطعن في النسب، والنياحة على الميت، كما في حديث: «اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت».
* الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج من المللة. وهي أن الاستسقاء بالأنواء بعضه كفر مخرج عن الملله وبعضه كفر دون ذلك، وقد سبق بيان ذلك.
* الخامسة: قوله: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر» بسبب نزول النعمة.
أى: إن الناس ينقسمون عند نزول النعمة إلى مؤمن بالله وكافر به، وقد سبق بيان حكم إضافة نزول المطر إلى النوء، والواجب على الأنسان إذا جاءته النعمة أن لا يضيفها إلى أسبابها مجردة عن الله، بل يعتقد أن هذا سبب محض إن كان هذا سببًا، مثال ذلك: رجل غرق في ماء، وكان عنده رجل قوي، فنزل وأنقذه، فإنه يجب على هذا الذي نجا أن يعرف نعمة اله عليه، ولولا أن الله أمرًا قدريًّا شرعيًّا أن ينقذك هذا الرجل ما حصل إنقاذ، فأنت تعتقد أن هذا سبب محض.
أما أن غرق ويسر الله له، فخرج فقال: إن الولي الفلاني أنقذني، فهذا شرك أكبر، لأنه سبب غير صحيح، ثم أن إضافته إليه لا يظهر منها أنه يريد أنه سبب، بل يريد أنه منقذ بنفسه، لأن اعتقاد أنه سبب وهو في قبره وارد، ولذلك كان أصحاب الأولياء إذا نزلت بهم شدة يسألون الأولياء دون الله تعالى، فيقعون في الشرك الأكبر من حيث لا يعلمون أو من حيث يعلمون، ثم قد يفتنون، فيحصل لهم ما يريدون عند دعاء الأولياء لا به، لأننا نعلم أن هؤلاء الأولياء لا يستجيبون لهم، لقوله تعالى: {إن تدعوهم لا يسمعون دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم} [فاطر: 14]، وقوله: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة} [الأحقاف: 5].
* السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع.
* السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع.
* السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع. وهو نسبة المطر إلى فضل الله ورحمته.
* السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع. وهو نسبة المطر إلى النوء، الثامنة: التفطن لقوله: (لقد صدق نوء كذا وكذا). التاسعة: إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها، لقوله: «أتدرون ماذا قال ربكم؟» العاشرة: وعيد النائحة.
فيقال: هذا بسبب النوء الفلاني، وأشبه ذلك.
* الثامنة التفطن لقوله: (لقد صدق نوء كذا وكذا). وهذا قريب من قوله: (مطرنا بنوء كذا)، لأن الثناء بالصدق على النوء مقتضاه أن هذا المطر بوعده، ثم بتنفيذ وعده.
* التاسعة: إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها لقوله: «أتدرون ماذا قال ربكم». وذلك أن يلقي العالم على المتعلم السؤال لأجل أن ينتبه له، وإلا، فالرسول، فالرسول يعلم أن الصحابة لا يعملون ماذا قال الله، لكن أراد أن ينبههم لهذا، الأمر، فقال: «أتدرون ماذا قال ربكم؟» وهذا يوجب استحضار قلوبهم.
* العاشرة: وعيد النائحة. وذلك بقوله: «إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب»، وهذا وعيد عظيم.
باب قول الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله} [البقرة: 165].